أصبوحة 180

لأن القراءة ضرورة وليست هواية

نظارة الناس صدقة أم نفاق؟

كاتب المقال: رجاء الغيثي

2022-04-07



طبيعتنا البشرية الاجتماعية تلزمنا التعامل مع بقية البشر، لكن هذا التعامل يحتاج لمجموعة قواعد حتى نضمن أن يسير في الاتجاه المناسب، ويكون ذا فائدة تعود على الجميع. ومن هذه القواعد التي أحلّها الإسلام ودعا لها (مداراة الناس)، وهذه القاعدة بالتحديد يجب فهمها جيدا لأنها تتقاطع مع المداهنة المحرمة في بعض النقاط؛ لذا وجب معرفة الفرق جيدا حتى لا نقع في الشبهات.

فالمداراة هي الرفق بالجاهل، والنهي دون تجريح، أو إغلاظ يؤدي إلى نفوره من النصيحة، أي رفقٌ مع إظهار الإنكار لما يقوم به الجاهل والمخطئ. وهي بهذا الشكل واجبة، وقد شجع عليها الإسلام، فعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مداراة الناس صدقة".

أما المداهنة فهي إقرار الحال الذي عليه الجاهل أو الفاسق من أجل مكاسب دنيوية بحتة، ولتوضيح الفرق بينهما نستشهد بقول ابن القيم: "المدَاراة صفة مدح، والمداهنة صفة ذم، والفرق بينهما: أن المُدَاراة تلطُّف الإنسان بصاحبه حتى يستخرج منه الحق أو يرده عن الباطل، وأما المداهن، فهو الذي يتلطَّف مع صاحبه ليُقرَّه على ذنب أو يتركه على هواه، فالمدَاراة لأهل الإيمان، والمداهنة لأهل النفاق."

ولأن مخالطة الناس أمر ضروري ولا مفر منه وجب علينا تعلم المداراة؛ لما لها من تفتيت للعقبات التي تعيق عملية التعايش، فهي من أسباب الألفة، وفيها يجتمع الاحتواء والصبر وخفض الجناح لمن نعيش ونتعامل معهم بشكل يومي.

كما إنها ليست محصورة في تعاملنا مع المسلمين فقط، بل تعد طريقة ناجعة في حالة الخوف، وفي حالات أخرى كالصبر على المسيئين فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: "بئسَ أخو العشيرة (الجماعة أو القبيلة)، وبئسَ ابن العشيرة"، فلما جلس تطلَّقَ (استبشر) النبيُّ صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسطَ إليه، فلما انطلق الرجلُ قالت عائشة: "يا رسول الله، حين رأيتَ الرجلَ قلتَ له كذا وكذا، ثم تطلَّقْتَ في وجهِه وانبسطْتَ إليه؟!" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، متى عَهِدتني فحَّاشاً، إن شرَّ الناس عند اللهِ منزلةً يومَ القيامة من تركَه الناسُ اتقاءَ شرِّه."

فالملاطفة والملاينة تأتي بنتائج إيجابية وفيها درء للشر والفتنة، وهذا إعمال للعقل وذكاء اجتماعي يساعد على استقرار الأوضاع إلى حد كبير، يقول الحسن البصري: "كانوا يقولون: المداراة نصف العقل، وأنا أقول: هي العقل كله".

وأفضل الأحوال التي يجب أن تعمل بها المداراة هي الحياة الزوجية، فكلما كثرت المداراة فيها كلما استقرت الأسرة. فتغاضي الزوجة عن زلات زوجها، وصبر الزوج عن بعض أخلاق زوجته ليس جبنا أو خضوعا كما يشاع بين الناس؛ بل هي إعمال للعقل كي تنجو سفينة الأسرة وتصل إلى بر الأمان، كما أنها مدعاة للمودة بين الزوجين وهذا له أثر بالغ على نفسية أطفالهما. فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ المرأة خُلِقَتْ من ضِلَعٍ، فإنْ أَقَمْتَها كسَرْتَها، فَدَارِها تَعِشْ بِها"، أي اصبر على بعض أفعالها لتستمع بها، وتنال مودتها والعكس صحيح.

وما أحوجنا إلى مداراة الناس بالكلمة الطيبة اللينة التي تجبر الخواطر، وترمم بعض جروح الزمن، قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34).

وأخيرا... أود أن أضرب لكم مثلاً للفرق بين المداراة التي تبذل من أجل إصلاح الدين والدنيا، والمداهنة التي تتم من أجل بيع الدنيا بالدين، ومن أروع الأمثلة على ذلك تشبيه المداراة برجل أصابته قرحة في قدمه، فجاء الطبيب الرفيق، فأخذ يُعالج هذه القرحة، ويُخرج ما فيها، ثم إذا به يضع الدواء الذي يُنبت اللحم، ثم يتعاهدها، ويضع عليها المراهم حتى يجففها، ثم يضع عليها خرقةً، فلا يزال يُتابع هذا وهذا حتى ذهبت رطوبتها، وأما المداهن فهو الذي أتى إلى صاحب هذه القرحة وقال: "لا بأس عليك، إنما هي شيء يسير، واسترها عن عيون الناس بخرقة وتلهَّى عنها!" فلا يزال يزداد شرُّها، وتكثر عفونتُها حتى يهلك.

تنويه:

المقال يعبر عن رأي كاتبه فقط، وليس بالضرورة عن رأي المشروع أو الصفحة.

مشاركة المقال